القائمة الرئيسية

الصفحات

بحث عن الأحكام وقواعد الاستدلال

  










الاستدلال بالقواعد الفقهية في الأحكام

اختلف الفقهاء في تعريف القواعد الفقهية بناء على اختلافهم في مفهومها هل هي قضية كلية أو قضية أغلبية؟ ونحن نختار لكل مدرسة تعريفا من تعريفاتها، فمن تعريفات المدرسة الأولى: هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة، تفهم أحكامها منه. ينظر: “الأشباه والنظائر” للإمام للسبكي (1/ 11، ط. دار الكتب العلمية). ومن تعريفات المدرسة الثانية: هي حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته، لتعرف أحكامها منه. ينظر: “غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر” للإمام الحموي (1/ 15، ط. دار الكتب العلمية). والظاهر أن الباعث لمن يعرفها بأنها أكثرية هو: أن كثيرًا من قواعد الفقه لها صور مستثناة منها، ولا ينطبق عليها حكمها، ويلحظ هذا الأمر من يطالع كتب قواعد الفقه. انظر: “مقدمة تحقيق قواعد للإمام الحصني” للدكتور الشعلان (1/ 23، ط. مكتبة الرشد). ولكن هذا الاستثناء وعدم الاطراد لا ينقض كلية تلك القواعد ولا يقدح في عمومها؛ لأن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي، كما أن الكليات الاستقرائية صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات. ينظر: “موسوعة القواعد الفقهية” للدكتور محمد صدقي الغزي (1/ 32، ط. مؤسسة الرسالة)، و”الموافقات” للإمام الشاطبي (2/ 53، ط. دار ابن عفان). وكون هذه القواعد أغلبية لا يغض من قيمتها العلمية وعظيم موقعها في الفقه، خاصة ضبطها لفروع الأحكام العلمية بضوابط تبين في كل زمرة من هذه الفروع وحدة المناط، وجهة الارتباط برابطة تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها وأبوابها، مما يمهد بينها طريق المقايسة والمجانسة. ينظر: “مقدمة شرح القواعد الفقهية” للشيخ الزرقا (ص: 35). ولذا كان من أهم فوائد علم القواعد الفقهية: ضبط الأمور المنتشرة المتعددة، ونظمها في سلك واحد، مما يمكن من إدراك الروابط بين الجزئيات المتفرقة، ويزود المطلع عليها بتصور سليم يدرك به الصفات الجامعة بين الجزئيات. ينظر: “القواعد الفقهية” للدكتور يعقوب الباحسين



مصادر القواعد الفقهية

ويمكن تقسيم القواعد الفقهية بحسب مصادرها إلى قسمين: –

القسم الأول: قواعد جاء بها نص شرعي: قد يكون بلفظه؛ مثل: “الخراج بالضمان“؛ فهو نص حديث شريف أخرجه أصحاب السنن الأربعة. وقد يكون بإنشاء لفظها من ظاهر النص دون حاجة إلى استقراء واستنباط؛ مثل: “الميسور لا يسقط بالمعسور”؛ فهي قاعدة مأخوذة من الحديث الشريف: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه. –

 القسم الثاني: قواعد خرجها العلماء من استقراء الأحكام الجزئية: وهي التي تتبعها العلماء في أبواب مختلفة، وكثير منهم صاغوها في عبارات موجزة سلسلة؛ مثل: “الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه”، و”المشغول لا يشغل”. انظر: “الأشباه والنظائر” للإمام للسيوطي (

شمول القواعد الفقهية

وأما تقسيمها من حيث الشمول والسعة، فتنقسم إلى أربعة أقسام: –

القسم الأول: القواعد الكبرى التي تشتمل على مسائل كثيرة وأبواب متعددة كادت أن تستوعبها؛ وهي القواعد الخمس التي قيل: إن الفقه مبني عليها، وهي: “الأمور بمقاصدها”، و”اليقين لا يزول بالشك”، و”المشقة تجلب التيسير”، و”الضرر يزال”، و”العادة مُحكَّمة”.
القسم الثاني: قواعد قريبة من السابقة في شمولها؛ إلا أنها أقل منها، وقد ذكر منها الإمام السيوطي في “الأشباه والنظائر” أربعين قاعدة؛ منها: “الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد”، و”إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام”، وأغلبها يذكر لها السيوطي مثل

القاعدة الأولى منها: “الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد”؛ قال الإمام السيوطي في “الأشباه” (1/ 101): [الأصل في ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم، نقله ابن الصباغ] اهـ.

وفي القاعدة الثالثة: “الإيثار في القربات مكروه، وفي غيرها محبوب”؛ قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].

 القاعدة الثامنة والثلاثون منها: “الميسور لا يسقط بالمعسور”؛ قال الإمام ابن السبكي: وهي من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». انظر: “الأشباه والنظائر” للإمام السبكي (1/ 155).
القسم الثالث: قواعد مختلف فيها في المذهب؛ كالقواعد العشرين التي ذكرها الإمام السيوطي في الكتاب الثالث من “الأشباه والنظائر”، وهو غالبًا يوردها بصيغة الاستفهام؛ مثل: “هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟”.
القسم الرابع: قواعد مشتملة على مسائل متعددة بأبواب محدودة أو معينة من أبواب الفقه، والكثير منها يعد ضابطا، وهو: ما اختص بباب واحد وقصد به نظم صور متشابهة، وغالبًا ما يختص بمذهب معين.

القواعيد الفقهية الأصلية والتابعة

وأما تقسيمها من حيث كونها أصلية أو تابعة فتنقسم إلى قسمين: –

القسم الأول: قواعد أصلية، وهي التي لا تكون تابعة لقاعدة أخرى؛ مثل القواعد الخمس الكبرى، وكذا القواعد الأربعون التي ذكرها الإمام السيوطي، والتي تقدمت الإشارة إليها. –

 القسم الثاني: قواعد تابعة، وهي التي تكون تابعة لقاعدة أخرى، وتكون تبعيتها من وجهين: أ- أن تكون متفرعة من أكبر منها؛ مثل: “الأصل براءة الذمة”؛ فهي مندرجة في قاعدة: “اليقين لا يزول بالشك”. ب- أن تكون قيدًا لقاعدة أخرى؛ مثل: “الضرر لا يزال بالضرر”؛ فإنها قيد لقاعدة: “الضرر يزال”. ينظر: “مقدمة تحقيق قواعد الحصني” (1/ 30)، و”موسوعة القواعد الفقهية” للغزي (1/ 32)، و”القواعد الفقهية” ليعقوب الباحسين (ص:.

القواعد الفقهية وتخصيص النصوص

والحكم في هذه المسألة أنه يجوز تخصيص النصوص وتقييدها بالقواعد الفقهية إجمالًا، وإنما قيدنا الجواز بالإجمال؛ لأن واقع الأمر يبين أن القواعد الفقهية ليست على وتيرة واحدة، فبعضها أصله نص شرعي، وبعضها مأخوذ من معنى نص أو أكثر، وبعضها كلي لا يخرج عنه إلا القليل من الفروع، وبعضها مختلف فيه -كما تقدم-، وبعضها لا يندرج تحته إلا فروع معدودة؛ كقاعدة: “من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه”، فقد قال الإمام السيوطي في “الأشباه والنظائر” (ص: 153) بعد ذكرها: [تنبيه: إذا تأملت ما أوردناه علمت أن الصور الخارجة عن القاعدة أكثر من الداخلة فيها. بل في الحقيقة، لم يدخل فيها غير حرمان القاتل الإرث] اهـ. كما أن النص الذي نريد تخصيصه لا بد أن يكون قابلًا للتخصيص، فإن لم يكن قابلًا للتخصيص فلا يخصص بالقواعد الفقهية ولا بغيرها. ومن الأدلة على ذلك ما أخرجه البخاري في “صحيحه” (2/ 64) قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأزرق بن قيس، قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جرف نهر إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها -قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي-، فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ، فلما انصرف الشيخ، قال: إني سمعت قولكم، وإني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ست غزوات -أو سبع غزوات- وثماني، وشهدت تيسيره، وإني إن كنت أن أراجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق علي. ثم أخرجه البخاري (8/ 30) من رواية الأزرق بن قيس قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها، فأخذها ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركته، لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأى من تيسيره. ووجه الدلالة من الحديث أن الصحابي أبا برزة رضي الله عنه لما ذمه الخوارج ودعوا عليه لتحركه في الصلاة، وهو مأمور بالخشوع فيها، قابل هذا العموم الوارد في الباب بقاعدة فقهية، قد استفادها من مشاهداته لأفرع كثيرة من تيسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لم يستدل بحديث في الباب على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل بدابة في صلاته مثل ما فعل هو، بل أوضح أنه باستقرائه لأحواله استنبط قاعدة: “التيسير مطلب شرعي”، حيث قدمه أو خصص به مسألة الخشوع وإن كان قد خرج من الصلاة كما هو ظاهر الرواية الثانية؛ فقد خصص بها قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 33]. ولا يقال: لعله خصصها بما خصصها به الشافعية بعد ذلك بقوله تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [التوبة: 91]؛ لأنه صرح بدليله ولم يسكت حتى يتطرق إلينا هذا الاحتمال.


 اضغط الرابط أدناه لتحميل البحث كامل ومنسق جاهز للطباعة 




تعليقات